المقدمة 01

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. 

وتضم هذه السورة عدة موضوعات  يجمعها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . 

 الخط الأول يدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة:

-  مواجهتهم لرسول هذه الدعوة ص ] وللجماعة المسلمة الناشئة. 

- والعلاقة القوية بين اليهود والمنافقين  من جهة وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . 

★ والخط الثاني يدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها:

 - إعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد نقض بني اسرائيل لعهد الله بخصوصها ، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - و تبصير هذه الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت لبني اسرائيل هذا التجريد من الشرف العظيم لحمل الأمانة. 

مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها 

و ستظل الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور- حسب الزمان والمكان 

لقد تمت هجرة الرسول ص ] إلى المدينة بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها والتي كان لها الفضل في تثبيته صلى الله عليه وسلم - وتبشيره , والتي والوقوف بجانبه والتخفيف عنه حين صدُّه الناس وكذبوه - وكذلك موت أبي طالب كافل النبي وحاميه . 

 كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها. واشتدت الاضطهادات من الأقربين، وعلى رأسهم :      أبو لهب  -  وعمرو بن هشام  -  وأبو سفيان بن حرب وغيرهم وكان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم من البحث عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة حرة وأمنة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها النجاح.

ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب ، عدة اتجاهات . . منها الاتجاه إلى الحبشة ،  و الاتجاه إلى الطائف  . . وهذا الأخير لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله ص ] أسوأ استقبال ، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق :

اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك "

فجاء الفتح - فتح الله على الرسول ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب

-  فكانت بيعة العقبة الأولى ،

-  ثم بيعة العقبة الثانية . 

والقصة باختصار :

 التقى النبي ص ] قبل الهجرة  بسنتين في يثرب بجماعة من الخزرج في موسم الحج, وكان سكان يثرب من العرب - أوس وخزرج - يسمعون من اليهود أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ؛ وكانت يهود تستفتح به على العرب ، فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي ص ] قالوا : " والله إنه للنبي الذي توعنا به يهود ، فلا يسبقننا  إليه ". . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له : " إننا  تركنا قومنا بينهم عداوة وشر. فعسى الله أن يجمعهم بك ". ولما عادوا ، وعرضوا الأمر على قومهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه

- فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج ، فالتقوا بالنبي ص ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه أوّل من هاجر إلى المدينة، وأول سفير في الإسلام. وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الأولى .

- وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي ص ] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى .

ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله ص ] يعني ليلة العقبة : " اشترط لربك ولنفسك ما شئت  . فقال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : " فما لنا إذا فعلنا ذلك "  ؟ قال : " الجنة " . قالوا : " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل " ! 

وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الأنصار ، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . 

ثم هاجر رسول الله ص ] وصاحبه الصديق  . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول ص ] . 

من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار - تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة .

 ونجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك : 

الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . . }

ثم نجد بعدها مباشرة وصفا للكفار ؛ ومقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة من طوائف الكفار :

إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم } . . 

وكانت هناك طائفة أخرى وهي طائفة المنافقين . وهذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة ؛ ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة أو عصبة يخشاها أهل مكة فيختبؤوا  منها وراء النفاق . أما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب لها حسابها .

وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام - وكان رأس النفاف  عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة . . 

{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ، إن الله على كل شيء قدير . . }

وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى ( شياطينهم )والظاهر من سياق الأحداث  أنها تعني اليهود ، وقصة اليهود مع الدعوة سنلخصها في هذه السطور القليلة : 

لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة: 

فقد كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - وكان  مشركي العرب  يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب .

 ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وتزخر به نصوص كتبهم المقدسة لديهم، ومنها ما ورد في توراتهم المحرفة: ( أنتم أولاد للرب إلهكم...لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ), وهذا الشعور بالاستعلاء والاستكبار على جميع الخلق داء عضال ومزمن عند الأمة اليهودية لم يفارقهم الى يومنا هذا. فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم ومن المستحيل أن يكون في غيرهم.  فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على العرب !  فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ، أخذتهم العزة بالإثم ، وحكموا على توجيه الدعوة إليهم أنها  إهانة واستطالة على الشعب المختار !

 لقد كان هنالك من بين  الأوس والخزرج خصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! فقد كانت هذه ال الفرقة ينفذون من خلالها للدس والكيد بين العرب وجر المغانم.  

فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا . .: 

 فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه  

 ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد بين العرب وجر المغانم ، فقد وحد الإسلامي الصف الذي يضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون باسم واحد وهو الأنصار.  

 ومن أهم ما أثار غضب اليهود أنه عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية - والتجارة الرابحة - والربا المضاعف الذي يسيطرون به على اقتصاد المدينة وأ هلها - وهو نفس الربا الذي يسيطرون به اليوم  على العالم وعلى مراكز القرار  !            

لهذا وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف المتصلب الذي تصفه سورة البقرة ، وسور غيرها كثيرة ] ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه . .                                

جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم : 

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . .                          

وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم الله عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم  :

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . 

وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. قل: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) .

ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ) . . . 

وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله . قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . . . 

ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) . ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) . . . 

ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . . . 

( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم ) . . . 

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . . 

الخ

وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده و إلى يومنا هذا . 

سماتهم هي هي -- 

ودورهم هو هو -- 

وموقفهم من الحق والخلق هو هو -- على مدار الزمان !

ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية تحذر الأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وفساد في الأرض , وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة ! 

وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . . 

تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها .

فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى :

- المتقين . والكافرين . والمنافقين .

- وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . 

نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . .

ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله : 

كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو بكل شيء عليم ) . . 

وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض : 

( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة )... 

وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان - : 

قلنا : اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . 

بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل

- تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم  - وتذكرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام                                            ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . 

- لقد كانوا أول كافر به                                              

- وكانوا يلبسون الحق بالباطل                                    

- وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم  

- وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه        

- وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى  بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته.                             

- وكانوا يريدون إن يردوا المسلمين كفارا .                      

- وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا                                

- وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم !                               

- وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء .   

- وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة        

- وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين . 

ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ؛ وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . تخاطبهم كأنهم جيل واحد متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل . 

 وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم  أنهم وحدهم المهتدون ، وأنهم ورثة إبراهيم , وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ، ويتقيدون بعهده مع ربه ؛ وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد ص ] والمؤمنين به ، استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت :

 ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) . 

وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي ص ] وإلى الجماعة المسلمة من حوله ؛ حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض ،  وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص - وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص . 

ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده ، هذه القبلة التي كان النبي ص ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها 

( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . . 

ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة - تبين لها 

- أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . 

- وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه . 

- وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . 

- وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . 

- وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . 

- وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . 

- وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا . وأحكام الدين والتجارة . . . 

وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من قصة إبراهيم . 

ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة ، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى . 

وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة : 

آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين . . )

🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟


Aucun commentaire: