سورة البقرة 

 الثمن 1 من الحزب 1


تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة : " ألف . لام . ميم ". 
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية .  ووردت في تفسير هذه الأحرف وجوه كثيرة . نختار منها وجها واحدا. 
إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول المخاطبين به من العرب , ولكنه - مع هذا - لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . 
الكتاب يتحداهم  أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله فلا يملكون جوابا ويخرصون ! أنه الاعجاز.
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا .
فهذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات . الا أن الناس بهذه الذرات المعلومة الصفات  - قصارى ما يمكنهم أن يصوغونه منها لبنة أو آجرة ، أو جهازا أوغير ذلك . . ولكن الله المبدع وحده يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على سر الحياة . . ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر . . 
وهكذا القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ، والله يجعل منها قرآنا وفرقانا. والفرق كبير ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة . .!

ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ } (2)
ومن أين يكون ريب أو شك ؛ ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع ، ظاهرة في عجزهم عن صياغة كتاب مثله من الأحرف المتداولة بينهم ، المعروفة لهم من لغتهم ؟ 
ذلك الكتاب لا ريب فيه . . هدى للمتقين ) . . 
الهدى حقيقت هذا الكتاب ، وطبيعته ، وكيانه ، وماهيته . . ولكن لمن ؟
الجواب : ( للمتقين . .
فالتقوى في القلب هي التي تؤهل القلب للاستتقبال و الانتفاع بما جاء في هذا الكتاب . وهي التي تفتح مغاليقه ليلتقط نور الهداية فيدخل ويؤدي دوره هناك فيستجيب. 
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . يخشى ويتوقى ، ويحذر،  . . حذر دائم من أشواك الطريق لتي تتجادبه :
أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، والخوف والرجاء الكاذب ممن لا يملك اجابة ولا نفعا ولا ضرا . عشرات وعشرات غيرها من الأشواك
وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب السليم .

{ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ } (3)
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين : 
( الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون ) . . 
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين 
- الإيمان بالغيب ، 
- والقيام بالفرائض ، 
- والإيمان بالرسل كافة ، 
- واليقين بعد ذلك بالآخرة . . 
هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة. 
والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ، ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة شاملة:
- للشعور، 
- والعمل ، 
- والإيمان 
- والنظام . 

فالسمة الأولى

الذين يؤمنون بالغيب ) . . 

لا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود ؛ 
ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات . 
ان الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس
- أنها النقلة البعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . 
- كما أنها النقلة البعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .
- كما أنها النقلة البعيدة الأثر في صيانة الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . فالطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها له لتقوم بالاستخلاف في هذه الأرض ، وتدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة محاولة فاشلة أولا ، ومحاولة عابثة أخيرا . 
- فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال. - وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال. 
إن عدم إدراك الانسان للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأن على هذا الانسان أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين . 
أما المنتكسون فيريدوا  أن يعودوا بالإنسان إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) والحمد لله على نعمائه  !

والسمة الثانية

ويقيمون الصلاة ) . .

لا سجود الا لله. الاتجاه بالعبادة الى لله وحده ، إلى القوة المطلقة بغير حدود . اتصال بالله على مدار الليل والنهار،يعطي لحيات الانسان غاية ويشعره أنه موصول بخالق المخاليق . . 

- وهذا مصدر قوة للضمير ، 

- كما أنه مصدر التقوى ، 

- وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .

- والسمة الثالثة 

( ومما رزقناهم ينفقون ) . . 

المال الذي في الأيدي هو من رزق الله ؛ ومن هذا الاعتراف ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . . 

- وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . 

- وقيمة هذا كله أن يرى المؤمن الحق الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، 

- وقيمة هذا كله أن يشعر العاجز والضعيف والقاصر ، أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب وأنياب ! 


{ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ } (4) 

( وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ )

وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة عليها

 - وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها . . 

 - وقيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . 

- وقيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . 

- قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام . 

( وبالآخرة هم يوقنون ) . . 

وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط 

- الدنيا بالآخرة ، 

- والمبدأ بالمصير ، 

- والعمل بالجزاء ؛ 

انها الخاتمة التي تشعر الإنسان أنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره , عدل الله روحمته في نهاية المطاف ، فيطمئن قلبه ، ويفيء إلى العمل الصالح اليقين بالآخرة هو مفرق الطريق: 

- بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب.  

- وبين من يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.

 

كل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة

 الإنسانية: 

- فمع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والرب. 

- ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء. 

- ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة 

- ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين . .


وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم

ذاك ، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا

   

{ أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون } . 

وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا . والطريق للهدى والفلاح هو هذا 

الطريق المرسوم


إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا

يُؤۡمِنُونَ } (6)

فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين : 

( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . . 

وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . 

فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . 

إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر . .

 إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا .


{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ } (7)

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) 

ختم على قلوبهم فهي معطلة لا تصل إليها حقيقة . 

وعلى أبصارهم غشاوة ) . . 

وغشي على أبصارهم فلا نور يوصوص فيهدي في ظلمات الطريق . ! 

ولهم عذاب عظيم ) . . 

وهي النهاية الطبيعية للكفر المطموس العنيد ، الذي لا يستجيب للنذير ؛ والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار .


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ } (8)

ثم ننتقل إلى النموذج الثالث : 

إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين

إنها صورة المنافقين : 

لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ؛ ولكننا نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . 

نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس ، وعلى تصورهم للأمور ! 

ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل

إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح 

بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين . 


يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون}

( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )} 

انهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ،

 إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون : 

يخادعون الله والذين آمنوا ) . . 

وهنا نقف أمام حقيقة كبيرة . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها: 

انها حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين .  

إن الله يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ ! 

وانها في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة

ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا

 وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون )

 إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنفه فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق  

وهم في الحقيقة يوردونها موارد التهلكة


{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ } (10)

في قلوبهم مرض ) . .  

  ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم

أن في طبيعتهم آفة وفي قلوبهم علة

تجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه

فزادهم الله مرضا ) .

فالمرض له مضاعفات ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . 

سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع ، وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم

 المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين : 

ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) .


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ } (11)

وهذه صفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي 

بن سلول - وهي صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد .  

إنهم لا يقفون عند حد من الكذب والخداع ونفي الفساد عن أنفسهم، 

بل يتجاوزونه الى القول بأنهم مصلحون

يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل الميزان في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. 

فيتعذر الشعور بفساد الأعمال، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .

ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق :

أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ } (12)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ } (13)

وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين أسلموا وجوههم لله ، وفتحوا صدورهم لرسول الله (صلعم)  

وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول

ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه

أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ )

يأتي الرد الحاسم:

ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . . 

ومتى علم السفيه أنه سفيه ؟ 

ومتى استشعر المنحرف أنه بعيذ عن المسلك القويم ؟ 


وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ } (14)

ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين . . 

إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، والسفه والادعاء ،

إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام :    

وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤون ) . . 

بعض الناس يحسب اللؤم قوة ، 

والمكر السيىء براعة

وهو في حقيقته ضعف وخسة . 

فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا ، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا . 

وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين ، ليتقوا الأذى ، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته ، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون كانوا

 إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون )

.أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق


ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ } (15)

وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ،

 حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي 

الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . 

وما أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه ! ! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب . وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب

وهو يقرأ :

 الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون )

 . . يدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته ، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته ، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ . 

وهذا هو الاستهزاء الرعيب .

وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله ، ومصير رعيب بشع 

لأعداء الله الغافلين.


أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ  مُهۡتَدِينَ } (16

فلقد كانوا يملكون الهدى - وكان الهدى في أيديهم 

كأغفل ما يكون المتجرون ولكنهم 

اشتروا الضلالة بالهدى )  

( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) . .

لم يحققوا شيئا له فائدة، وخسروا الهدى، 

أي خسروا الربح ورأس المال.


🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟

Aucun commentaire: