سورة البقرة
الثمن 2 من الحزب 1
{ مثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّه بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ }
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من
الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . .
الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها .
أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه.
إنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . لقد استوقدوا النار ، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها
فعندئذ
( ذهب الله بنورهم )
( وتركهم في ظلمات لا يبصرون )
جزاء إعراضهم عن النور
{ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ } (18)
إذا كانت الآذان والألسنة والعيون ، لتلقي الأصداء والأضواء والانتفاع بالهدى والنور ،
( صم ) فهم قد عطلوا آذانهم
( بكم ) وعطلوا ألسنتهم فهم
( عمي ) وعطلوا عيونهم
. . فلا رجعة لهم إلى الحق ، ولا أوبة لهم إلى الهدى . ولا هداية لهم إلى النور !
{ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ } (19)
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :
( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .
إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . .
صيب من السماء هاطل غزير
. . ( فيه ظلمات ورعد وبرق )
. . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه )
. . ( وإذا أظلم عليهم قاموا )
. . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون
. وهم مفزعون :
( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ،
إلى الظلمات والرعد والبرق ،
إلى الحائرين المفزعين فيه ،
إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون
بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين .
بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة .
بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
{ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ } (21)
وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة ، وأمرا للبشرية جمعاء ، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة
. . صورة المتقين :
( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق ، فوجب أن يتفرد بالعبادة . : وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه
( لعلكم تتقون ) . .
لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك .
{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ } (22)
( الذي جعل لكم الأرض فراشا )
الناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله ويسره لهم لطول ما ألفوه .
ينسون ما سخره الله لهم في الأرض من وسائل الراحة والمتاع . ولولا هذا التسخير ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة .
( والسماء بناء ) . .
. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض ، وبسهولة هذه الحياة . وهي
السماء بما جعل الله فيها من اجرام وما جعل فيها فيها من تناسق في النسب بناء يمهد لقيام الحياة على الأرض .
فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقضل الرزاق و بقدرة الخالق .
( وأنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم )
ذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته . .
والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها
. . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
وقصة الماء في الأرض لا يقبل المماحكة ، فتكفي الإشارة إليه ،
والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب
( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .
تعلمون أن الفضل في هذا كله للخالق الواحد
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم .
وتعلمون أنه لم يكن له شريك يساعد ، ولا ند يعارض .
فالشرك به بعد هذا العلم تصرف غبي لا يليق !
عقيدة التوحيد صافية واضحة نقية.
فقد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية.
قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة،
وفي الخوف من غير الله في أي صورة.
في غير الله في أي صورةوفي الاعتقاد بنفع أو ضر
{ وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ } (23)
ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي
[ ص ] وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع .
" الناس " جميعا
يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة :
( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . .
.يصف الرسول (ص) بالعبودية لله
: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا )
: . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة
فهو أولا تشريف للنبي ؛ ودلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك .
وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه .
فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . .
فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله.
فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .
{ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ } (24)
وما يزال التحدي قائما إلى يومنا هذا . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا
سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية
( فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافري )
والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها .
لقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع.. والخطاب للناس جميعا .
ان كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ أوخبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛ أوخبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر .
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح :
( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) . .
انه جمع بين الناس والحجارة ، في صورة مفزعة رعيبة
- بين الكافرين الذين سبق وصفهم بأن الله ختم على
قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة
- والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون . .
فهم إذن حجارة من الحجارة !
فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر - والحجارة من الناس
هو الأمر المنتظر !
مشهد مفزع
نار تأكل الأحجار . والناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ } (25)
وفي مقابل ذلك المشهد المفزع
مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين :
( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، وأتوا به متشابها ، ولهم فيها أزواج مطهرة ، وهم فيها خالدون ) . .
ألوان من النعيم - إلى جانب الأزواج المطهرة - وثمار متشابهة ، يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل
وهذا التشابه في الشكل ، والتنوع في المزية ، سمة واضحة في
صنعة الباريء تعالى ، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره .
🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟🌟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire