} إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } (158)
هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية ، أقربها إلى المنطق الرواية التي تقول :
إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة ، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة . فكرهوا أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية .
وكان هذا التحرج ثمرة وضوح التصور الإيماني في نفوسهم ، إذ أصبحت نفوسهم تفزع من كل ما كان في الجاهلية، الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة . .
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزا وأحدثت فيها انقلابا نفسيا وشعوريا كاملا، وكأن الرسول [ ص ] قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها - وهذا هو الإسلام - هذا هو - يربط القلب بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي .
وهنا نجد المثال من هذا المنهج التربوي العميق . إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . .
فإذا أطوف بهما مطوف ، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله ؛ وتعلق الأمر بالله - سبحانه - لا بصنم من أصنام الجاهلية !
( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) . .
لقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها، الا أنه ربطها بالتصور الإسلامي الجديد، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها.
وأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة !
ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقا :
( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) . .
تلميح إلى أن هذا الطواف من الخير، فينفي من النفوس كل حرج، فتطيب القلوب ، وتطمئن على أن الله أراد بها خيرا .
ولا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي :
( فإن الله شاكر . . . )
الشكر من الرب للعبد . ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب . فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا على العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد؟ ؟
تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ } (159)
وينتقل السياق إلى الحملة على اليهود الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضا :
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب ومما في رسالة محمد [ ص ] من حق، ومع هذا فانهم يكتمونه.
فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه ، ويكتمون الأقوال لغرض من أغراض هذه الدنيا . . الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة وفي زمننا كذلك.
( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) . .
هؤلاء تحولوا إلى ملعنة ، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها من الله ومن كل لاعن ! فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان . .
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (160)
من كرم الله عز وجل أنه يفتح النافذة المضيئة - نافذة التوبة - يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور, فلا تيئس من رحمة الله ، ولا تقنط من عفوه - فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول :
( وأنا التواب الرحيم ) وهو أصدق القائلين .
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ } (161)
فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة ، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم النافذة المضيئة، وتركوا الفرصة تفلت منهم، ، وأصروا على والكفر والضلال :
( أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) . . فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون !
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ} (162)
ولم يذكر السياق لهم عذابا آخر غير هذه اللعنة المطبقة ؛ بل عدها عذابا لا يخفف عنهم ، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه.
إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء. . وهذا هو العذاب الأليم المهين .
إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني .
لم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله – قد تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده.
لم يقع أن نسيت الفطرة حقيقة وجود إله، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة ، منقطعة عن أصل الفطرة ، تنكر وجود الله . وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود؛ ومن ثم فمصيرها حتما إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود. هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المعتوهة المقطوعة الجذور !
لذلك اتجه السياق إلى التصحيح الضروري للتصور، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور .
( وإلهكم إله واحد ) . . ( لا إله إلا هو ) . . ( الرحمن الرحيم ) . .
ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد ، بشتى أساليب التوكيد:
- يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة
- وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك؛
- ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين ؛
- ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق .
وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض.
يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي ، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل ، وكل جوانب الحياة والوجود , يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف . . ثم يذكر من صفات الله هنا: ( الرحمن الرحيم ) . . فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف .
{ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ } (164)
وهذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه :
لقد فقد الإنسان وهلت وروعة الكون مع التكرار - إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد ؛ ويظل أبدا يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد .
ليت الانسان يلقي عن عقله بلادة الألفة والغفلة ، فيستقبل مشاهد الكون بحس متجدد ، ونظرة مستطلعةة, ويسير في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة ، تهز كيانه تلك الأعاجيب التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر . .
إن هذا هو ما يصنعه الإيمان . هذا التفتح . هذه الحساسية . هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال . . إن الإيمان رؤية جديدة للكون ، وإدراك جديد للجمال ، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله ، آناء الليل وأطراف النهار . .
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ } (165)
ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل ، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود ، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب :
( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) .
من الناس من يتخذ من دون الله اندادا . .
كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارا وأشجارا ، أو نجوما وكواكب ، أو ملائكة وشياطين . . وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات . . وكلها شرك خفي أو ظاهر ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله ، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله .
فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله ؟
( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . .
أشد حبا لله ، حبا مطلقا من كل موازنة ، ومن كل قيد . أشد حبا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه .
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل ، فوق أنه تعبير صادق . فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب - صلة الوشيجة القلبية والتجاذب الروحي - صلة المودة والقربى - صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود .
( ولو يرى الذين ظلموا - إذ يرون العذاب - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب )
. فظلموا الحق ، وظلموا أنفسهم . . لو مد أولئك الذين اتخذوا من دون الله اندادا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد ! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين ! لو يرون لرأوا ( أن القوة لله جميعا ) فلا شركاء ولا انداد . . ( وأن الله شديد العذاب ) .
{إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ} (166)
سقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها ، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلا عن وقاية تابعيها . وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة. لقد تقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب ، وانشغل كل بنفسه تابعا كان أم متبوعا . و تبرأ المتبوعون من التابعين . ورأوا كلهم العذاب , تابعا و متبوعا.
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)
ويبدى التابعون المخدوعون باخراج أضغانهم متمنيين لو يردون لقيادتهم الجميل ! لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب !
إنه مشهد مؤثر : مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين . بين المحبين والمحبوبين ! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم :
( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار ) . .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire