{ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ } (168)
لما بين الله - سبحانه - أنه الإله الواحد ، وأنه الخالق الواحد - وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم . . شرع يبين أنه الرازق لعباده ، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام .
ان الله خلق ما في الأرض للإنسان ، والأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة ، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق. فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل لا من جهة الشيطان عدو للناس والذي لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء .وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك
{ إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ } (169)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡـٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ } (170)
- وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام ، وإلى التلقي منه ، وهجر ما ألفوه في الجاهلية
- أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد.
سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك:
( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) .
تنديد بالجمود والتقليد ؟- تنديد بالافتراء على الله ، دون تثبت ولا يقين !
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)
مثل هؤلاء كمثل البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها !
بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهمية فهم صم بكم عمي , وان كانت لهم آذان والسنة فهي معطلة لا تؤدي وظيفتها فلا ينتفعون بها ولا يهتدون.
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (172)
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع ؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام . ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق ، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم ؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيبا من الطيبات ، وأنه إذا حرم عليهم شيئا فلأنه غير طيب ، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم - وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء - ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك . فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ } (173)
ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .
( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه مضرة للناس و من ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟
أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور، وسلامة القلب، وطهارة الروح، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية. .
ومن هنا تتجلى الصلة القوية والمباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
مبدأ عام: أيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة.
ولن ندخل في الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (174)
ولقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه . فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى :
( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم )
بينما كانت هذه مباحة للمسلمين . ولعلهم جادلوا حتى في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة . . والهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية.
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب من أهل الكتاب - ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة ، يكتمون الحق الذي يعلمونه، ويشترون به ثمنا قليلا .
إما لنفع الخاص يحرصون عليه، أومصالح خاصة يتحرونها بهذا الكتمان، وإما هو الدنيا كلها - وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله ، ومن ثواب الآخرة .
ويقول القرآن عن هؤلاء :
( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) . .
! وكأنما هم يأكلون النارفي بطونهم ! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة ، فإذا هي لهم لباس ، وإذا هي لهم طعام !
وجزاء ما كتموا من آيات الله - يهملهم الله يوم القيامة - لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران . .
( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ) . .
فيتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكه . .
( ولهم عذاب أليم ) . .( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ) . .
فكأنما هي صفقة
- يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة !
- ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب . .
فما أخسرها من صفقة وأغباها ! - ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا ! - ومن ثم التهكم الساخر من طول صبرهم على النار !التي اختاروها اختيارا ، وقصدوا إليها قصدا .
( فما أصبرهم على النار ! ) . .
إنه جزاء جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس ، وليحقق في واقع الأرض، وليكون شريعة ومنهاجا. فمن كتمه فقد عطله عن العمل . وهو الحق الذي جاء للعمل :
{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ } (176)
( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) . .
فمن فاء إليه فهو على الهدى ، وهو في وفاق مع الحق ، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق ، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل .
( وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) . .
ومن لم يفئ اليه فهو في شقاق مع الحق ، وشقاق مع ناموس الفطرة ، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم . . ولقد كانوا كذلك ، وما يزالون . وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها . فلا تأخذ به جملة ، وتمزقه تفاريق . . وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام . ونحن نرى مصداقه واقعا في هذا العالم الذي نعيش فيه
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire