سورة البقرة - حزب 3- ثمن 1,


سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (142)

الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة ، والملابسات التي أحاطت به ، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته ، والأقاويل التي أطلقوها من حوله ؛ ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين ، وفي الصف المسلم على العموم

ومجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها - بالإجمال - أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة - وليس في هذا نص قرآني - وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول [ ص ] يرجح أنه أمر غير قرآني. ثم جاء الأمر القرآني الأخير : 
( فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . . فنسخه . 

وقد كان التوجه إلى بيت المقدس - وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى - سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام ، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول ، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين ، وقبلتهم هي القبلة ؛ وأنهم هم الأصل ! 

وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقا على المسلمين من العرب ، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام ؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم.! 

وكان الرسول [ ص ] يقلب وجهه في السماء متجها إلى ربه ، دون أن ينطق لسانه بشيء ، تأدبا مع الله، وانتظارا لتوجيهه بما يرضاه. 

ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول [ ص ] : 
( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

وتقول الروايات : إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة ، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة ، كان بعضهم في منتصف صلاة ، فحولوا وجوهم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم ، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة . 

عندئذ انطلقت أبواق يهود - انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم . . قالوا لهم : إن كان التوجه - فيما مضى - إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة ؛ وإن كانت حقا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل ، وضائعة صلاتكم إليه كلها. وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر - أو للآيات - لا يصدر من الله ، فهو دليل على أن محمدا لا يتلقى الوحي من الله ! 

وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي .فقد كان هذا حادثا عظيما في تاريخ الجماعة المسلمة ، وكانت له آثار كبيرة في حياتها . . 

لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس : 

( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )
فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ، ويعدونه عنوان مجدهم القومي . . ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلق بغيره، ومن كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة ، فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر ، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ.  

حتى إذا استسلم المسلمون ، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول [ ص ] وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم ، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ثبت قلوب المسلمين و ذلك بربطها بحقيقة أخرى. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام ، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته . . كما مر في درس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) . . في الجزء الماضي . 

ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته ، وما أحاط بهما من ملابسات ؛ والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته ، وعهده ووصيته . . فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل - وذلك الدعاء الطويل - ووراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه،  . . يبدو في هذا السياق وهو الاتجاه الطبيعي المنطقي. وطبيعي إذن ومنطقي أن يرث المسلمون بيت الله في مكة، وأن تتخذوا منه قبلة لهم. 

لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين ؛ وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده ، كما عهد به يعقوب - وهو إسرائيل - ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين. وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم - وهو الإسلام - فيشاركوا في هذه الوراثة .
الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها، وراثة الدين - ووراثة النسب - ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعا. 
إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا - ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب - إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. 
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس.  وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا؛ وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن ؛ . 

وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدي بمجرد النية ، ولا بمجرد التوجه الروحي . ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا : قياما واتجاها إلى القبلة وتكبيرا وقراءة وركوعا وسجودا في الصلاة. 
وإحراما من مكان معين ولباسا معينا وحركة وسعيا ودعاء وتلبية ونحرا وحلقا في الحج . 
ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . . وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، استجابة للفطرة استجابة تتفق مع التصورالخاص بهذا الدين. 
 
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه.  تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. 

ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم وعن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء.
انها نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات . انهانظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة. وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصو، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه . 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله [ ص ] قال : 
" إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم " . 
وقال رسول الله [ ص ] وقد خرج على جماعة فقاموا له : 
" لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها " . 
وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : 
" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " . 

نهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك. ونهى عن تشبه في قول أو أدب . . لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. 

ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض . نهى عن الهزيمةالداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض . . 
الجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية ؛ فينبغي على المسلمين أن يستمدوا تقاليدهم وعقيدتهم - من المصدر الذي اختارهم لقيادة البشرية. . 
هم الأعلون. 
هم الأمة الوسط. 
وهم خير أمة أخرجت للناس . 
ادا لم يستمدوا تقاليدهم وعقيدتهم من الأعلى فهم سيستمدونها من الأدنى.
إن القبلة رمز للتميز والاختصاص بين 
- التصورات الجاهلية السائدة التي تعج بها الأرض، والأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض، 
- والاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس، والرايات الجاهلية التي يرفعها الناس . 
 و الأمة المسلمة بغيرمنهاجها الدي اختصها الله به ضائعة، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام ! 

ثم نعود من هذا الاستطراد بمناسبة تحويل القبلة لنواجه النصوص القرآنية بالتفصيل : 

سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ قل : لله المشرق والمغرب . يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا . وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله . وما كان الله ليضيع إيمانكم . إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . 

السفهاء هم اليهود . فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا. وهم الذين أثاروا هذا التساؤل :
( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ ) وهي المسجد الأقصى. 

عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : أول ما قدم رسول الله [ ص ] المدينة نزل على أجداده - أو قال أخواله - من الأنصار ؛ وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا؛ أو سبعة عشر شهرا ؛ وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر؛ وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون . فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله [ ص ] قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت. وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء . . . ) فقال السفهاء - وهم اليهود – ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) . 
صيغة التعبيرهنا لتساؤل اليهود يشي بضخامة آثار تلك الحملة في  الصف المسلم في ذلك الحين . . وأن ما قالوه كان مقدرا أمره، ومعروفة خطته، ومعدة إجابته. : 
( سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟). 
( قل : لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . . 
ان المشرق لله والمغرب لله . فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها . وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حالفإذا اختارالله لعباده وجهة، أو قبلة، فهي إذن المختارة. وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم . .
 { وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ } (143)
ثم يحدث هذه الأمة 
عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، 
وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، 
وعن مكانتها العظيمة في هذه البشرية، 
وعن دورها الأساسي في حياة الناس؛ 
مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة ، وشخصيتها الخاصة ؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم : 
وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . . 

إنها الأمة الوسط - تشهد على الناس جميعا - تقيم بينهم العدل والقسط - وتضع لهم الموازين والقيم - وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد . وتقول لهم : هذا حق وهذا باطل . 
وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ؛ فيقرر لها موازينها وقيمها - ويحكم على أعمالها وتقاليدها - ويزن ما يصدر عنها - وتكون له الكلمة الأخيرة 
إنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء :
- من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، 
- أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، 
- أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . . 
( أمة وسطا ) . .
- في التصور والاعتقاد
- في التفكير والشعور
- في التنظيم والتنسيق
- في الارتباطات والعلاقات
- في المكان . .:
- في الزمان . .:

( أمة وسطا ) . . 
- في التصور والاعتقاد . .:
 لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . 
إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . 
وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، 
- تعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، 
وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال . 

( أمة وسطا ) . . 
- في التفكير والشعور . . :
لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ؛ وشعارها الدئم : الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين . 

( أمة وسطا ) . .
 - في التنظيم والتنسيق . . :
لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب.
إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، 
فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك . 

( أمة وسطا ) . . 
- في الارتباطات والعلاقات . .:
لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته،  وتذيب شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ؛ ولا تطلقه كذلك فردا جشعا لا هم له إلا ذاته. 
- تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ 
- وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق . 

( أمة وسطا ) . .
 في المكان . .:
 في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء . 

( أمة وسطا ) . .
في الزمان . .:
 تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ؛ وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك . 

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها ، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها . 

وأمة تلك وظيفتها ، وذلك دورها، لا بد أن تبتلى ، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة . ثم يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها، 
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )
إنه يريد لها أن تخلص له ؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية؛ ومن سماتها القديمة وتتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر . 

ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصبية الجنس، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس.

لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول [ ص ] ثانيا، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة . 
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه : 

وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) . . 

فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيثما وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تقاد . 

ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال ، وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها : 

( وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . . 

بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .

{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ، ووقايتها من البلبلة والفتنة : 

قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون . . 

وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] : 

( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . . 

 بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . كان رسول الله [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا . 

ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه : 

( فلنولينك قبلة ترضاها ) . . 

ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها : 

( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . . 

قبلة له ولأمته. من معه منها ومن سيأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : 

( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . . 

من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعا . . قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد. منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة . 

ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة ؟ 

( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . . 

إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . . 

ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم ؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم : 

( وما الله بغافل عما يعملون ) . . 

إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :

{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)

( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . . 

فهم في عناد يقوده الهوى ، وتؤرثه المصلحة ، ويحدوه الغرض . . وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه ، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة . . وهذا وهم . . إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه ! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم ؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة . يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم .

( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . 

وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له ، يقرر حقيقة شأن النبي [ ص ] وموقفه الطبيعي : 

( وما أنت بتابع قبلتهم ) . . 

ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا . واستخدام الجملة الأسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول [ ص ] تجاه هذا الأمر . وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه . فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة. . هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء . . إنما هي دعوى . . 

ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض ؛ فهم ليسوا على وفاق ، لأن الأهواء تفرقهم : 

( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) . . 

والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء . 

وما كان للنبي [ ص ] وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب ، وقد علم الحق في الأمر ، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم : 

( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) . . 

ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود . . 

إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه ؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه . ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم ، وبهذه المواجهة والتحذير . . إنك إذا لمن الظالمين ) . . 

إن الطريق واضح ، والصراط مستقيم . . فإما العلم الذي جاء من عند الله . وإما الهوى في كل ما عداه . وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله . وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب . وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد . 

وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة ، 

{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (146)

وبعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق ؛ فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن ، وما أمر به الرسول . ولكنهم يكتمون الحق الذي يعلمونه ، للهوى الذي يضمرونه : 

( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) . . 

ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة ، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه . . فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي [ ص ] ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة ، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين . . فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب . وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئا في أمر دينهم ، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين .تستدعي هذه الشدة في التحذير ، وهذا الجزم في التعبير .

{ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (147)
وهنا يوجه الخطاب إلى النبي [ ص ] بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب : 
( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) . . 
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير ؛ ونحن - في بلاهة منقطعة النظير - نروح نستفتي المستشرقين - من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار - في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا ؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير . 
إن هذا القرآن قرآننا . قرآن الأمة المسلمة . وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره . وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار . والدين هو الدين !


--------------------------------------------------------------

سورة البقرة - حزب 3- ثمن 1,

 

سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ } (142)


الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على تحويل القبلة ،والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته. 

كان المسلمين في مكة يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة - وليس في هذا نص قرآني - و بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول [ ص ] يرجح أنه أمر غير قرآني

 بيت المقدس - هو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى - سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام.

وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقا على المسلمين من العرب ، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام ؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم.! وكان الرسول [ ص ] يقلب وجهه في السماء متجها إلى ربه ،

ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول [ ص ] : 

( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس : 

 ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ). 

كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي . . ولما كان الإسلام نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية.  

ثم  صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ثبت قلوب حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم. 

ويجيء تحويل القبلة في أوانه. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها،

- وراثة الدين

- ووراثة النسب

- ووراثة القبلة،

- ووراثة الفضل من الله جميعا.

الله يعلم أن في النفس الإنسانية ميلا إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.

- قياما واتجاها إلى القبلة وتكبيرا وقراءة وركوعا وسجودا في الصلاة. 

- وإحراما من مكان معين ولباسا معينا وحركة وسعيا ودعاء وتلبية ونحرا وحلقا في الحج . 

- ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . . 

ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة

ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم وعن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء.

إنها نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة. والتي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصو، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه . 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله [ ص ] قال : 

" إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم " . 

وقال رسول الله [ ص ] وقد خرج على جماعة فقاموا له : 

" لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها " . 

وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : 

" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " . 

 

نهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك. ونهى عن تشبه في قول أو أدب . .

 لأن وراء هذا كله -  الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج،. 

فالجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية ؛

هم الأمة الوسط. 

وهم خير أمة أخرجت للناس . 

ادا لم يستمدوا تقاليدهم وعقيدتهم من الأعلى فهم سيستمدونها من الأدنى.

إن القبلة رمز للتميز والاختصاص بين 

- التصورات الجاهلية السائدة ، 

- والاهتمامات الجاهلية والرايات الجاهلية التي يرفعها الناس . 

 و الأمة المسلمة بغيرمنهاجها الدي اختصها الله به ضائعة، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام ! 

 

سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ... رحيم ) . 

السفهاء هم اليهود . فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا. وهم الذين أثاروا هذا التساؤل :

( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ ) وهي المسجد الأقصى. 

إذ كان الرسول  يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، 

فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء . . . ) فقال السفهاء - وهم اليهود – ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) . 

ما قالوه كان مقدرا أمره، ومعروفة خطته، ومعدة إجابته. : 

( سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟)

( قل : لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . . 

ان المشرق لله والمغرب لله . فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها . وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حال

 { وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا ... إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ } (143)

ثم يحدث هذه الأمة 

عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، 

وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، 

وعن مكانتها العظيمة في هذه البشرية، 

وعن دورها الأساسي في حياة الناس؛ 

مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة ، وشخصيتها الخاصة ؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم : 

وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . . 

وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ؛ فيقرر لها موازينها وقيمها - ويحكم على أعمالها وتقاليدها - ويزن ما يصدر عنها - وتكون له الكلمة الأخيرة 

إنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء :

- من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، 

- أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، 

- أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . . 

( أمة وسطا ) . .

- في التصور والاعتقاد

- في التفكير والشعور

- في التنظيم والتنسيق

- في الارتباطات والعلاقات

- في المكان . .:

- في الزمان . .:

 

( أمة وسطا ) . . 

- في التصور والاعتقاد . .:

 لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . 

( أمة وسطا ) . . 

- في التفكير والشعور . . :

لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ،. 

 ( أمة وسطا ) . .

 - في التنظيم والتنسيق . . :

لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب.

 ( أمة وسطا ) . . 

- في الارتباطات والعلاقات . .:

لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته،  وتذيب شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ؛ ولا تطلقه كذلك فردا جشعا لا هم له إلا ذاته. 

 ( أمة وسطا ) . .

 في المكان . .:

 هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال

 ( أمة وسطا ) . .

في الزمان . .:

 تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها

وأمة تلك وظيفتها ، وذلك دورها، لا بد أن تبتلى.، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة

وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ).

ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة - إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس.

فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول [ ص ] ثانيا،

وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) . . 

فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيثما وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تقاد . 

ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال ، وإن صلاتهم لم تضع ،

( وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . . 

بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .

{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ ...وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ : 

وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] : 

( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . . 

 بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . كان رسول الله [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا . 

ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه : 

( فلنولينك قبلة ترضاها ) . . 

ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها : 

( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . . 

قبلة له ولأمته. من معه منها ومن سيأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : 

( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . . 

 ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . . 

إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين .

 ( وما الله بغافل عما يعملون ) . . 

إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ،  :

{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)


( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . . 

فهم في عناد يقوده الهوى ، وتؤرثه المصلحة ، ويحدوه الغرض . . وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه ، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة . . وهذا وهم . . إنهم لا يريدون الإسلام.

( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . 

وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له ، يقرر حقيقة شأن النبي [ ص ] وموقفه الطبيعي : 

( وما أنت بتابع قبلتهم ) . . 

ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا

ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض ؛ فهم ليسوا على وفاق ، لأن الأهواء تفرقهم : 

( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) . . 

والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء . 

وما كان للنبي [ ص ] وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب ، وقد علم الحق في الأمر ، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم : 

( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) . . 

ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم

. . ( إنك إذا لمن الظالمين ) . . 

{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (146)

وبعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق ؛ فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن ،: 

( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) . . 

 

{ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (147)

وهنا يوجه الخطاب إلى النبي [ ص ] بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب : 

( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) . . 

وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير ؛ ونحن - في بلاهة منقطعة النظير - نروح نستفتي المستشرقين - من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار - في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا ؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير . 

إن هذا القرآن قرآننا . قرآن الأمة المسلمة . وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره . وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار . والدين هو الدين !

Aucun commentaire: