ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء . . أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم كلما جاءوهم بالحق ، الذي لا يخضع للأهواء . .
( ولقد آتينا موسى الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل ؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون ؟ ) . .
ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم .
وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضا ؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام ؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم ؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به :
( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ! ) ! .
ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى !
ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقا من الهداة وكذبوا فريقا . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)
ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم ، يبينه ويقرره ، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد ، فإذا هم هم ، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل :
( وقالوا : قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم : أن يكفروا بما أنزل الله - بغيا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين . وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا . ويكفرون بما وراءه ، وهو الحق مصدقا لما معهم ، قل : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا : سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . قل : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! ) . .
إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد ، ويتحول - في بعض المواضع - إلى صواعق وحمم . . إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا ؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم ، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق ، وأثرتهم البغيضة ، وعزلتهم النافرة ، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير ، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله . جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم . .
( وقالوا : قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) . .
قالوا : إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة ، ولا تستمع إلى داعية جديد ! قالوها تيئيسا لمحمد [ ص ] وللمسلمين ، من دعوتهم إلى هذا الدين ؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول . .
ويقول الله ردا على قولتهم : ( بل لعنهم الله بكفرهم ) . . أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى . . ( فقليلا ما يؤمنون ) . . أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق ، وضلالهم القديم . أو أن هذه حالهم : أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان ، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم . . وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع .{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (89)
وقد كان كفرهم قبيحا ، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه ، واستفتحوا به على الكافرين ، أي ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم . وقد جاءهم بكتاب مصدق لما معهم :
( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . .
وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته . . ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكف( فلعنة الله على الكافرين ) . {بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (90)
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها :
( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين ) . .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : ( بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ){وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)
( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . .
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون ( نؤمن بما أنزل علينا ) .
ففيه الكفاية ، وهو وحده الحق ، ثم يكفرون بما وراءه . سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام ، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين .
والقرآن يعجب من موقفهم هذا ، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) . .
وما لهم وللحق ؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم ! ما داموا لم يستأثروا هم به ؟ إنهم يعبدون أنفسهم ، ويتعبدون لعصبيتهم . لا بل إنهم ليعبدون هواهم ، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به . . ويلقن الله نبيه [ ص ] أن يجبههم بهذه الحقيقة ، كشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم :
( قل : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ) . .
لم تقتلون أنبياء الله من قبل ، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم ؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذي جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به ؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire