سورة البقرة





وفي نهاية هذا الدرس تجيء قصة " البقرة " . 
تجيء مفصلة وفي صورة حكاية، ولم ترد من هذه القصة من قبل في السور المكية، كما أنها لم ترد في موضع آخر ؛ 
وهذه القصة ترسم سمة - العناد - والتعنت - والتلكؤ في الاستجابة ، وتمحل المعاذيرالواهية ، التي يتسم بها بنو إسرائيل : 

وإذ قال موسى لقومه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة . قالوا : أتتخذنا هزوا ؟ قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال : إنه يقول : إنها بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك ، فافعلوا ما تؤمرون . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال : إنه يقول : إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ، إن البقر تشابه علينا ، وإنا إن شاء الله لمهتدون . قال : إنه يقول : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلمة لا شية فيها . قالوا : الآن جئت بالحق . فذبحوها وما كادوا يفعلون . . وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، والله مخرج ما كنتم تكتمون . فقلنا : اضربوه ببعضها ، كذلك يحيي الله الموتى ، ويريكم آياته لعلكم تعقلون . . )

وفي هذه القصة القصيرة - كما يعرضها السياق القرآني - مجال للنظر في جوانب شتى :
- جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة - وجانب دلالتها على قدرة الخالق ، وحقيقة البعث ، وطبيعة الموت والحياة . 
- ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءا ونهاية واتساقا مع السياق . . 

إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه :
 - انقطاع الصلة بين قلوبهم ، ونبع الإيمان بالغيب ، ومن ثم انقطاع الثقة بالله ، وعدم الاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل . 
- ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف ، وتلمس الحجج والمعاذير ، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان ! 

لقد قال لهم نبيهم : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . . وكان هذا القول بهذه الصيغة كان يكفي للاستجابة والتنفيذ .
- فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين ، برحمة من الله ورعاية وتعليم ؛ 
- وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه ، إنما هو أمر الله ، الذي يسير بهم على هداه . 
فماذا كان الجواب ؟ 
لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب ، واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما موسى الذي يعرف الله - فضلا على أنه رسول الله - أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس : 
( قالوا : أتتخذنا هزوا ؟ ) . 

وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ؛ وأن يردهم برفق ، وعن طريق التعريض والتلميح ، إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه ؛ وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله. لا يعرف الأدب ولا يتوخاه : 
قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . . 

وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم ، ويرجعوا إلى ربهم ، وينفذوا أمر نبيهم . . ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها . ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم . 
فإذا هم يسألون :
 
( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ ) . 
والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! 
فهم أولا : يقولون : ( ادع لنا ربك ) . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! 
وهم ثانيا : يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم : ما هي ؟ ) 
والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . 
ما هي ؟ إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى ! 

هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة ، بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . . إنه لا يجابههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين . . يجيبهم عن صفة البقرة : 

( قال : إنه يقول : إنها بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك  . .) 

إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة ، وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة : 

( فافعلوا ما تؤمرون ) . . 

ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ؛ وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين ، ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم ، لا عجوز ولا صغيرة ، متوسطة السن ، فيخلصوا بها ذمتهم ، وينفذوا أمر ربهم ، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !

لقد راحوا يسألون : 

( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ ) . . 

هكذا مرة أخرى: ( ادع لنا ربك ) ! 

ولم يكن بد - وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل - أن يأتيهم الجواب بالتفصيل : 

( قال : إنه يقول ، إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) ...

وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار - وكان في الأمر مجال واسع - فأصبحوا بعد ما أبدوه من المكرمكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة . . مجرد بقرة . . بل عن بقرة متوسطة السن ، لا عجوز ولا صغيرة ، وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها ؛ وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء : ( تسر الناظرين ) . . وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على بقرة يعجبوا بها و بحيويةها واستواءها . 

- لقد عقدوا الأمور . . . فعقدها الله عليهم أكثر.

- وشددوا على أنفسهم . . . فشدد الله عليهم أكثر.

الا أن بنوا اسرائيل عادوا مرة أخرى يسألون من الماهية :

( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) . 

ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل 

( إن البقر تشابه علينا ) . . 

وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون : 

وإنا إن شاء الله لمهتدون ) . .

فزادت دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا ، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة. 

( قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلمة لا شية فيها ) . 

وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر- صفراء فاقع لونها فارهة فحسب - بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع - وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة . 

هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر ، وتضاعفت الشروط ، وضاق مجال الاختيار

( قالوا : الآن جئت بالحق ) . .

الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا الآن ! 

( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ! !

عندئذ - وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف : 

( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، والله مخرج ما كنتم تكتمون ، فقلنا : اضربوه ببعضها . كذلك يحيي الله الموتى ، ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) . . 


وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . 

جانب دلالتها على قدرة الخالق ، وحقيقة البعث ، وطبيعة الموت والحياة . 

وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة.

لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة : 

لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ؛ ثم جعل كل فريق يتهم الأخر . ولم يكن هناك شاهد ؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته ؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه ، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح . . وهكذا كان ، فعادت إليه الحياة ، ليخبر بنفسه عن قاتله ، ليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين . 

 - ولكن . فيم كانت هذه الوسيلة ، والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة ؟ 

- ثم ما علاقة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث ؟ 

كانت هذه مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله ، التي لا يعرف البشر كيف تعمل . فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و : 

( كذلك يحيي الله الموتى ) . . 

كذلك بمثل هذا الذي ترونه ولا تدرون كيف وقع ؛ وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر . 

المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير . . كيف ؟ . . 

هذا ما لا يمكن لأحد إدراكه . إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الخالق، لا سبيل إليه في مجال المخلوق! 

و المهم أن يكنون في قدرة العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها : 

( ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) . .

فبعد هذا المشهد الأخير من القصة ، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى ؛ وأن يرجعوا الى عقولهم.

 تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب منهم : 

( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وإن منها لما يهبط من خشية الله . وما الله بغافل عما تعملون ) . 

أن قلوب بني اسرائيل أجدب وأقسى من الحجارة. . 

وهي حجارة رأوها من قبل تتفجر منها اثنتا عشرة عينا ، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا ! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى, قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة . . 

ومن ثم هذا التهديد : 

وما الله بغافل عما تعملون ) 

وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب ، والالتواء واللجاجة ، والكيد والدس ، والقسوة والجدب ، والتمرد والفسوق . 

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ ) . . 

كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي . صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ، ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ، وبالقنوط من الطمع : 

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ ) . . 

إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا التحريف والالتواء . 

والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ، ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف . يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ ص ] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب ! 

(75)


Aucun commentaire: