سورة البقرة




 ولا تلبسوا الحق بالباطل . وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) . .

ويستمر السياق يحذر بني اسرائيل ما كانوا يزاولونه من تلبيس الحق بالباطل ، وكتمان الحق وهم يعلمونه ، 

بقصد اشاعة الشك و اللاضطراب في المجتمع المسلم


ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة ؛            

وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي ، 

وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم . كما هو الشأن الأن .   و أمثلة هذا التلبيس الكثير !

 التلبيس قد يكون على يد مشتغلين بالدين، أو مفكرين أو مثقفين أو من على شاكلتهم، كلٌ يعمل في مجاله لتحقيق أهدافه أو أهداف وغايات غيره، والقرآن أشار إلى علماء يهود، كمثال في التلبيس والتدليس، وهم يحاولون إخفاء حقائق الدين الجديد وهو ينتشر بالمدينة المنورة، فكشفهم الله

{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

ينكر على يهود - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته 

 المصدق لدينهم القدييصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ،  


ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .


    آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة  

- أنهم : 

يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛     

يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ 

ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ 

ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ 

ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، 

ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ 

فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ 

وتخبو في قلوبهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ 

وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ 

ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين


إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة   

متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . لأن:          

   - الكلمة تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛

من صدقها لا من بريقها .    - وتستمد جمالها 

والمطابقة بين القول والفعل ، 

وبين العقيدة والسلوك ، 

ليست مرا هينا ولا طيقا معبدا 

 إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة  وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ 

والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة - ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛                                            فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه .


وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

وفي الغالب إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة ، إلا على الخاشعين الخاضعين لله ، الشاعرين بخشيته وتقواه ، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين 

والاستعانة بالصبر تتكرر كثيرا ؛هو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة ، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احتراما للحق وإيثارا له ، واعترافا بالحقيقة وخضوعا لها .

فما الاستعانة بالصلاة ؟

إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب . صلة يستمد منها القلب قوة ، وتحس فيها الروح صلة ؛ وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الدنيا                                                                 ولقد كان رسول الله ادا حز به أمر فزع الى الصلاة.                

 وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق ، ومددا حين ينقطع المدد ، ورصيدا حين ينفد الرصيد . .


ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

واليقين بلقاء الله - واليقين بالرجوع إليه وحده في كل الأمور . . هو مناط الصبر والاحتمال ؛ 

 وبدت الدنيا كلها ثمنا قليلا ، وعرضا هزيلا ؛ وبدت الآخرة على حقيقتها ، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها .

وهكدا يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة ، توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع . .


يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، وأني فضلتكم على العالمين . واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، ولا هم ينصرون ) .

 ثم عودة إلى نداء بني إسرائيل ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم ، وتخويفهم من ذلك اليوم المخيف الدي لا مفر لهم منه :


ان تفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم 

فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم ، وعصوا أنبياءهم ، وجحدوا نعمة الله عليهم ، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم ، فقد اعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلة والمسكنة ، وقضى عليهم بالتشريد وحق عليهم الوعيد .

وتذكيرهم بتفضيلهم على العالمين ، هو تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله وعهده ؛ وإطماع لهم لينتهزوا الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية ، فيعودوا إلى موكب الإيمان . وإلى عهد الله ؛  .

 الآية السابقة

{وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (48)

فالتبعة فردية ، والحساب شخصي ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، ولا تغني نفس عن نفس شيئا . . 

وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم . 

المبني على العدل المطلق من الله .                                        


ولا يقبل منها شفاعة . ولا يؤخذ منها عدل ) .

فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانا وعملا صالحا ؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته .

ولا هم ينصرون ) . .

فما من ناصر ولا عاصم ينصرهم أو يعصمهم من الله أو وينجيهم من عذابه . . 

{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)


بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء ،  . وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الا ليم : 

وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

إنه يعيد على خيالهم  

- صورة الكرب الذي كانوا فيه     

- و يرسم أمامهم مشهد النجاة    

يقول لهم : واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون كانوا يديمون عذابكم  وكأن العذاب هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه ! ! 

ثم يذكرهم بلون من هذا العذاب . هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم !

ويعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم .

 امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . 

. والألم يهون على النفس حين تدخر ما في التجربة المؤلمة 

من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ،  

ومن زاد للآخرة باحتساب دلك عند الله ، 

وبالتضرع لله و عدم اليأس  . 

:  ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) 


{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

مشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .

وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . 

أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! 


{وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ} (51)


ثم يمضي السياق قدما مع رحلة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ناجين

وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ، ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون . وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون . وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم ، فتاب عليكم ، إنه هو التواب الرحيم ) . .

وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل ، وعبادته في غيبة موسى - عليه السلام - عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل ، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة . وهنا فقط يذكرهم بها ، وهي معروفة لديهم . 

يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم ، 

الذي أنقذهم باسم الله ، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب . ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة

: وأنتم ظالمون ) . . ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلا جسدا ، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول ! ومع هذا فقد عفا الله عنهم .

{ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (52)


{وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (53)

وآتى نبيهم الكتاب - وهو التوراة - فيه فرقان بين الحق والباطل ، عسى أن يهتدوا إلى الحق البين بعد الضلال .



Aucun commentaire: